من التحذير إلى التحرك.. صيف 2025 يختبر كفاءة استجابة مصر لأزمة الطاقة (مقال)

خلصنا في كتابات سابقة، أهمها الدراسة الصادرة عن مركز العدل لدراسات السياسات العامة في مارس/آذار 2025، إلى أن ما تواجهه مصر ليس أزمة في توليد الكهرباء، وإنما أزمة هيكلية في إمدادات الغاز.
فمحطات الكهرباء، من حيث البنية، قادرة على الوفاء بالطلب، لكن الوقود اللازم لتشغيلها خصوصًا الغاز الطبيعي بات عُنق الزجاجة الحقيقي، وسط تراجع الإنتاج المحلي، وغياب استثمارات جديدة، وضغط موسمي متكرر على الشبكة.
وقدّرت الدراسة أن الإنتاج المحلي من الغاز في مصر سيتراجع إلى حدود 4 مليارات قدم مكعبة يوميًا، مقابل احتياجات صيفية تقارب 7.55 مليار قدم مكعبة يوميًا.
وهذا الفارق الذي يتجاوز 3.5 مليار قدم مكعبة لا يمكن لمصر أن تتجاوزه بآليات تلقائية، بل يحتاج إلى منظومة استيراد وتغويز وتشغيل دقيق تحت ضغط زمني ومكاني غير مسبوق.
أزمة الطاقة في مصر
في محاولة لمعالجة هذه الفجوة التي أدت إلى أزمة الطاقة في مصر، اعتمدت الحكومة على إستراتيجية التوسع في قدرات التغويز العائم.
وجاء ذلك عبر تشغيل الوحدة القائمة “هوغ غاليون” (Hoegh Galleon) في السخنة، وتجهيز الوحدتَيْن “إنرغوس إسكيمو” (Energos Eskimo) الموجودة حاليًا في العقبة، و”إنرغوس باور” (Energos Power) الموجودة حاليًا في ألمانيا للوصول في يونيو/حزيران.
كما تعتمد الحكومة المصرية، خلال المرحلة المقبلة، على التعاقد الذي أجرته مع وحدة “بوتاش” التركية، منذ ساعات قليلة.

إلا أن تشغيل هذه الوحدات فعليًا يصطدم بإشكالية لوجستية قائمة، وهي أن مصر لا تمتلك حتى الآن إلا رصيفَيْن فاعلَيْن في السخنة، بخلاف الثالث المستعمل لاستقبال الديزل والبوتاجاز.
بينما لا تسمح الظروف الملاحية بتشغيل أكثر من وحدتَيْن في الوقت ذاته دون مناورات معقّدة.
ولذلك، تعتمد الخطة الحالية على تشغيل وحدتَيْن محليًا، ووحدة ثالثة في العقبة الأردنية، في انتظار استكمال تجهيز رصيف ثالث، وربما رابع، في مصر.
هذا الترتيب الذي جاء استجابة لتحذيرات مبكرة يُعد إنجازًا مرحليًا، لكنه لا يُخفي هشاشة القدرة الاستيعابية للمواني، وضيق هوامش التشغيل.
تحرّك محسوب.. لكنه هشّ بطبيعته
تشير هذه التحركات إلى إدراك رسمي لحجم أزمة الطاقة في مصر، إلا أن عبور الصيف بنجاح مرهون بتحقيق 4 شروط تنفيذية لا تقبل التراخي:
- الالتزام الحرفي بجداول الإمداد والتفريغ، بما يضمن انتظام عمليات التغويز.
- الالتزام الحرفي بخطة إنتاج الغاز المحلي، بما يعكس الاستقرار اليومي في المعروض.
- ضمان استمرارية تدفقات الدولار المخصصة للواردات، دون تعثر أو تأخير تعاقدي.
- استمرار تدفق غاز الخطوط بحدود المليار قدم مكعبة يوميًا، للحفاظ على مستوى الإمداد الإجمالي.
أي خلل في هذه المنظومة يُعيد إنتاج الأزمة بصورة أكثر حدّة، لا سيما في ظل غياب الاحتياطيات التشغيلية المرنة.
من إدارة الظرف إلى بناء المنظومة
لا تجب قراءة عبور صيف 2025 مؤشرًا على التعافي، بل بصفتها فرصة أخيرة لإصلاح هيكلي طال انتظاره.
وكما أوضحت دراسة مركز العدل، فإن تأمين استدامة الإمداد يتطلّب 5 أولويات إستراتيجية:
- إعادة هيكلة الإشراف المؤسسي على القطاع: عبر تنسيق فعلي بين وزارتي البترول والكهرباء، بما يضمن توافق الإنتاج مع توقعات الطلب، ويُقلّل من فجوات القرار. وقد يكون من المفيد التفكير الجاد في دمج الوزارتَيْن تحت اسم وزارة الطاقة، بما يعزز التكامل التشغيلي، ويمنح الملف بُعدًا إستراتيجيًا واضحًا.
- اعتماد نماذج تقدير ديناميكية تستند إلى بيانات لحظية وتحليل أنماط الاستهلاك بوساطة الذكاء الاصطناعي، بما يُحسّن دقة التوقعات ويرفع كفاءة القرار.
- تأسيس احتياطي إستراتيجي من الغاز الطبيعي من خلال منشآت تخزين قادرة على استيعاب الفوائض خلال فترات انخفاض الأسعار العالمية، وتفريغها عند الذروة.
- تفعيل أدوات إدارة الطلب الصناعي عبر حوافز تسعيرية واضحة، وبرامج تُشجع على استهلاك الغاز خارج أوقات الذروة، بما يُخفف الضغط على الشبكة.
- توسيع تبني تقنيات كفاءة الطاقة في الصناعات كثيفة الاستهلاك، بهدف تحسين الأداء الاقتصادي للمنشآت، وتقليل الفاقد من الوقود.
ما بعد صيف 2025
ما تشهده مصر هذا الصيف ليس أزمة طارئة، بل ملامح تحدٍ هيكلي يتكرر كل عام.
وإذا كان التحرك الحالي قد منع الأسوأ فإن الاستحقاق الحقيقي لا يتمثّل في تجنّب الانقطاعات، بل في بناء منظومة طاقوية مستقرة، ومتكاملة، ومؤهلة إلى مواكبة نمو الطلب مستقبلًا.
إن الخروج من منطق “المناورة الموسمية” إلى إستراتيجية طاقة وطنية مستدامة، هو الاختبار الأهم للدولة، وهو ما يجب أن يبدأ الآن، لا مع صيف آخر.
*د. محمد فؤاد، خبير اقتصادي ونائب سابق في البرلمان المصري.
*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
نرشح لكم السلسلة الآتية..
- أزمة إدارة موارد الطاقة في مصر.. هل “الكهرباء” السبب؟ (مقال)
- معضلة الغاز في مصر.. قراءة في بيانات الحكومة (مقال)
- معضلة الغاز في مصر.. تحديات الصيف وفرص الإنقاذ (مقال 2)
- معضلة الغاز في مصر.. هل يلوح تخفيف الأحمال في الأفق؟ (مقال -3)