عاجل

النحت من الصفر.. دلالات تجربة “منصة الطاقة” في الإعلام العربي (مقال)

ظلّت التغطية الإعلامية لمجالات الطاقة هامشية جدًا في الإعلام العربي عامة، إلى أن ظهرت منصة الطاقة في المشهد منذ 5 سنوات، لتقلب مسار الاهتمام رأسًا على عقب، وتُحدِث ثورة في عالم الصحافة المتخصصة عبر تدشين أول نموذج عربي محترف لـ”صحافة الطاقة”.

ولم يكن الاهتمام بأخبار الطاقة قبل ظهور المنصة يتجاوز كونه مجرد (جزء من جزء، أو جزء من كل، في أحسن الأحوال)، إذ جرت العادة على تسكين أخبارها تحت أحد الأقسام في الصحف العامة، وغالبًا ما تكون أقسام الاقتصاد أو الخارجي ومؤخرًا البيئة أو المناخ، بل إن الصحف الاقتصادية المتخصصة نفسها لم تهتم بأخبار الطاقة إلّا جزئيًا، وإن أفردت لها قسمًا خاصًا، مع غلبة الطابع العشوائي في تغطية موضوعاتها.

ونظرًا لسيادة أنماط الصحافة العامة أو الاقتصادية أو الرياضية أو الفنية على مشهد الإعلام العربي، فقد جاء النموذج الذي رسّخته منصة الطاقة وكأنه ينحت نفسه من الصفر، ما صعَّب المهمة على أصحاب الفكرة والمؤسسين، وجعل التحدي مصيريًا، فإمّا أن ينجحوا في تقديم النموذج ويخطفوا الأنظار ويتصدّروا الصفوف، أو يخفقوا ويتواروا خلف الستار.

لم يمرّ عامان على التجربة حتى ذاع صيتها في آفاق العالم العربي بصورة مذهلة، إلى حدّ أنها صارت حديث صنّاع السياسات والخبراء والمحللين في قطاعات الطاقة المختلفة بأكبر الدول العربية المنتجة والمصدرة للطاقة في المحيط العربي، فضلًا عن أساتذة الكليات التطبيقية والباحثين في علوم الطاقة بفروعها المختلفة. (يحتاج جمع شهادات وإشادات الفريقين إلى سلسلة مقالات).

اليوم، وبعد مرور 5 سنوات على إطلاق التجربة الفريدة من نوعها (أبريل/نيسان 2020)، يمكننا أن نرى بوضوح تشكُّل معالم نموذج صحافة طاقة محترف، بنى نفسه بذاته، ليصبح بحق أول نموذج عربي يمكن البناء عليه في مبادرات نشر وترسيخ هذا النمط من الإعلام المهمّش في عالمنا العربي المعاصر.

ونظرًا لصعوبة الإحاطة بتقييم تجربة ثرية مثل تجربة منصة الطاقة في مقال واحد، فسنكتفي بالإشارة إلى 4 معالم رئيسة رسّخها هذا النموذج في عالم الصحافة العربية المتخصصة كالتالي:

المعلم الأول: منصة شاملة وليست جزئية

للوهلة الأولى يلحَظ أيّ مطلع على تقسيم موقع منصة الطاقة أنه لم يترك فرعًا من فروع الطاقة إلّا وخصّص له قسمًا يتابع أخباره وتحليلاته بصورة دورية منتظمة، بداية من النفط والغاز وحتى الطاقة المتجددة والنووية والهيدروجين والسيارات الكهربائية.

كما يلحظ الاهتمام بإفراد قسم خاص بأخبار وتحليلات قطاع الكهرباء، رغم أنها ليست قطاعًا مستقلًا بذاته، بل هي نتيجة لغيرها، فالنفط والغاز يُستعملان في توليدها، كما تنتجها الطاقة المتجددة والنووية، وكذلك الهيدروجين في أحد استعمالاته.

ولعل تنوّع مصادر الكهرباء وثقل وزنها النسبي بين قطاعات الطاقة الفرعية هو السبب في تمييزها بقسم خاص حتى لا تتوه أخبارها بين الأقسام، إذا أُدرجت تحت أيٍّ منها، ما يشير إلى أن تقسيم القطاعات في منصة الطاقة من البداية ليس عشوائيًا، بل يعبّر عن رؤية فنية متخصصة عالية الدقة.

صورة معبرة عن شبكات الكهرباء من تصميم وحدة الإنفوغرافيك بمنصة الطاقة المتخصصة.
صورة معبرة عن شبكات الكهرباء من تصميم وحدة الإنفوغرافيك بمنصة الطاقة المتخصصة

كما أفردت المنصة قسمًا خاصًا لمتابعة أخبار ابتكارات الطاقة بفروعها المختلفة (تكنو طاقة) حول العالم، وهو قسم ذو أهمية بالغة للباحثين العرب وصنّاع سياسات الطاقة في الوطن العربي، ويمكّن من مطالعة أخباره لأول وهلة إدراك مدى أهميته العلمية والعملية على حدّ سواء.

ويهدف هذا القسم إلى تسليط الضوء على ابتكارات الباحثين العرب، لدرجة أنه بات المنصة الأولى لتقديم أنفسهم، سواء للقرّاء أو الشركات المهتمة بتلك التقنيات.

وتحوَّل قسم “تكنو طاقة” إلى ما يشبه “مركز بحثي” مصغر، تَعرِض من خلاله منصة الطاقة أبرز تجارب الباحثين العرب، وجهودهم في تقنيات الطاقة بكل فروعها، خاصة الطاقة المتجددة.

كذلك يُلحَظ إفراد قسم خاص لأخبار وتحليلات ظاهرة التغير المناخي وآثاره، وهو قسم يهتم بأخبار التلوث والانبعاثات ودرجات الحرارة وتأثيراتها حول العالم، فضلًا عن تغطية المؤتمرات الدولية والإقليمية المعنية بالمناخ على نطاق واسع.

وقد كانت تغطية المنصة لآخر 4 مؤتمرات دولية للمناخ بعد تأسيسها، وخاصة قمة شرم الشيخ (كوب 27) عام 2022، وقمة دبي (كوب 28 ) عام 2023، نموذجًا لأوسع تغطية إعلامية متخصصة عرفها الإعلام العربي حتى الآن.

إضافة إلى ذلك، فهناك قسم خاص بمتابعة أسهم شركات الطاقة المُدرَجة في أسواق المال أو البورصات العربية والإقليمية والعالمية، وهو قسم ذو طابع خاص يستهدف متابعة أخبار الطاقة من زاوية أخرى أقرب لعالم الاقتصاد والتحليلات الفنية المالية.

المعلم الثاني: منصة تحليلية وليست إخبارية فقط

لا تعرِّف منصة الطاقة نفسها بأنها منصة إخبارية بالمعني التقليدي المتداول، بل منصة إعلامية وبحثية واستشارية متخصصة، ليس فقط في التغطية الإخبارية لأسواق الطاقة، بل في تحليلها عبر مستويات مختلفة اقتصادية وسياسية وبيئية واجتماعية وتقنية.

بعبارة أخرى، تهتم المنصة بفروع التحليل البينية التالية: اقتصادات الطاقة العامة، الاقتصاد السياسي للطاقة، الاقتصاد البيئي للطاقة، الاقتصاد التقني للطاقة، الاقتصاد الاجتماعي للطاقة.

ونظرًا لأهمية الجانب التحليلي ومحوريته ضمن الأهداف التأسيسية لمنصة الطاقة، فقد أنشأت وحدة أبحاث خاصة تهتم بالتغطية التحليلية لفروع الطاقة المختلفة عبر متابعة تقارير المنظمات الدولية وشركات الأبحاث العالمية المتخصصة، مع التركيز على متابعة الجدالات الكبرى بين مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة وتحليلات تغير المناخ من منظورات نقدية مقارنة.

كما تختصّ وحدة أبحاث الطاقة بإصدار ملف حصاد سنوي شامل يغطي تطورات أسواق الطاقة العالمية والعربية بفروعها المختلفة، إضافة إلى ملف ربع سنوي عن مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية، وهو أول ملف من نوعه تصدره منصة إعلامية في العالم العربي على الإطلاق.

غلاف تقرير مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية في الربع الأول من 2025
غلاف تقرير مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية في الربع الأول من 2025 – من تصميم وحدة الإنفوغرافيك بمنصة الطاقة المتخصصة.

ويستند هذا الملف إلى بيانات خام حصرية تحصل عليها المنصة من شركات المراقبة العالمية، وتنشرها مجانًا في وقت قياسي لا يتجاوز 10 أيام من نهاية كل ربع سنوي، متجاوزة كبرى المنظمات الدولية و شركات الأبحاث العالمية المتخصصة التي تبيع تقارير مماثلة بالآلاف الدولارات، ولا تصدرها إلّا بعد شهرين من مرور الحدث على الأقل.

وتركّز وحدة أبحاث الطاقة في هذا الملف تحديدًا على إجراء عمليات معالجة تحليلية دقيقة لبيانات صادرات وواردات الغاز المسال العالمية اعتمادًا على معيار التصنيف العربي المهمّش في أغلب التقارير الدولية المتصلة بأسواق الغاز المسال، التي تعتمد على معايير تصنيف إقليمية وقارية لا تهتم بإظهار الدول العربية وحدها، رغم وزنها النسبي الضخم في أسواق النفط والغاز العالمية.

ويبدو أن الجهد التحليلي الضخم المبذول في هذا الملف قد شعر به جميع المعنيين في المنطقة العربية، فقد ذاع صيت هذا الملف بسرعة فائقة منذ أول إصداراته في أبريل/نيسان 2024، حتى باتت تترقبه كبرى وسائل الإعلام العربية كل موسم ربع سنوي، وتنقل عنه (بعضها ينسب المصدر لوحدة أبحاث الطاقة، وبعضها يختلسه للأسف، وهذه ظاهرة متكررة سنتناولها في مقال آخر).

واستكمالًا لهذا الجانب التحليلي، أنشأت “الطاقة” موسوعة مفاهيم خاصة بالطاقة ومصطلحاتها التي يغلب عليها الطابع الفني المتخصص، بهدف تبسيط هذه المفاهيم للقرّاء العرب، وبيان فروقها بأقرب صياغة عربية منضبطة دون إفراط في الفصحى أو تفريط بها، وهذه ميزة أخرى للمنصة (تناولتها الزميلة نسيبة الحجي مديرة وحدة التدقيق اللغوي في منصة الطاقة بمقال خاص بمناسبة اليوم العالمي للّغة العربية لعام 2024).

المعلم الثالث: منصة عربية جامعة وليست قطرية ضيقة

للوهلة الأولى أيضًا، يدرك المتابع لأخبار وتحليلات منصة الطاقة أنها منصة عربية جامعة مهتمة بأخبار الطاقة في الوطن العربي كلّه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، خلافًا لمنصات إعلامية أخرى تكاد تغطيتها تقتصر على قطر عربي بعينه، مع اهتمام هامشي بكل ما هو خارج عنه.

على العكس من ذلك، تبدو منصة الطاقة كأنها حاضنة لكل الأقطار العربية، مع انفتاحها على جميع مسؤولي وزارات ومنظمات الطاقة في الدول العربية، وإتاحة مساحة كافية لظهورهم على نوافذ المنصة بأشكال إعلامية مختلفة وراقية (حوار، تعليق، بيان، نقد، وغيرها).

وتكفي الإشارة إلى عدد الوزراء وكبار المسؤولين العرب ضمن قوائم كتاب المقالات المميزين في منصة الطاقة، كما تكفي عشرات الإشادات والشهادات التي أدلى بها كبار المسؤولين بحق المنصة ومستواها الاحترافي في تغطية أخبار وتحليلات قطاعات الطاقة الوطنية على مستوى الأقطار العربية، فضلًا عن التغطيات الإقليمية والعالمية.

المعلم الرابع: منصة القراء والباحثين

رغم نجاح منصة الطاقة في بناء علاقات طيبة مع دوائر صنع سياسات الطاقة في العالم العربي خلال وقت قياسي، فإن النموذج الذي رسّخته في هذه العلاقات قائم على الثقة والمصداقية والدقة والاحترام المتبادل، وليس التبعية أو الولاء، فولاء الطاقة للقارئ العربي الذي كانت الفكرة نفسها من أجله (محتوى وصياغة)، فالهدف الأساس للمنصة، هو تبسيط علوم الطاقة وأخبارها وتحليلاتها لتصل إلى أوسع جمهور عربي في شتى أرجاء الوطن العربي.

كما أن المنصة لم تنجح فقط في بناء جسور الثقة مع دوائر صنع القرار، بل مع الخبراء والباحثين المستقلين وأساتذة الجامعات في العلوم التطبيقية ممن باتوا ينظرون للمنصة على أنها كنز بحثي لا غنى عن متابعته يوميًا، لاشتباكه مع تخصصاتهم العامة، وربما الدقيقة.

ولا نبالغ إن قلنا، إن محتوى المنصة يشتبك مع تخصص كل واحد منهم بعينه، و عن قرب، خاصة في قطاعات الطاقة الناشئة التي تراكم محتواها في المنصة على مدار 5 سنوات من المتابعة المنهاجية الدقيقة لتطورات كل تقنية وفرصها وتحدياتها وتكاليفها (الطاقة الشمسية بفروعها، طاقة الرياح بفروعها، الطاقة الحرارية الأرضية بأجيالها، الطاقة الحيوية بتنويعاتها، الهيدروجين ومشتقاته، السيارات الكهربائية وتنويعاتها).

كل ذلك على نطاق عالمي وإقليمي ووطني، ويمكن لأيّ قارئ الآن أن يطرق الموقع الإلكتروني للمنصة ويكتب أيّ مصدر من مصادر الطاقة في خانة البحث، ليرى التراكم الضخم الذي تمتلكه المنصة من أخبار وتقارير وتحليلات متخصصة بكل فروع الطاقة وتقنياتها التقليدية والناشئة.

وربما يستغرب بعضهم من هذا النمط المتوازن في بناء العلاقات مع المسؤولين الحكوميين والباحثين المستقلين على حدّ سواء، لكن نطاق اهتمام منصة الطاقة نفسه هو ما يفسّر ذلك، فمجالات الطاقة بطبيعتها فنية متخصصة، وتميل إلى الحيادية والبعد عن الاستقطاب، ما يجعل الاهتمام بها مشتركًا بطبيعة الحال، فكما أن أخبارها تخصّ المسؤولين، فإن موضوعاتها تهمّ الخبراء والباحثين.

ربما لهذا السبب نجحت المنصة في بناء علاقات حيادية متوازنة مع الجميع، قائمة على الثقة والمصداقية وتحرّي الدقة والاحترام المتبادل، ويمكن تلخيص كل هذه المعاني في عبارة موجزة شعرتُ بها من أول وهلة اطّلعتُ فيها على محتواها: “رفيقة كل باحث، وصديقة كل مسؤول”.

لعل أقرب تفسير لهذه العبارة، أن أبواب منصة الطاقة مفتوحة على مصراعيها أمام الباحثين في مجالات العلوم التطبيقية والاجتماعية (الهندسة، والزراعة، والاقتصاد، وتكنولوجيا المعلومات، وغيرها)، ممن لهم إسهامات بحثية تطبيقية في مجالات الطاقة المختلفة.

ويمكن لأيّ متابع أن يلحظ مئات الحوارات التي أجراها فريق منصة الطاقة مع الباحثين والمبتكرين العرب من أستاذة الجامعات وأعضاء مراكز البحوث المتخصصة في شتى الموضوعات المرتبطة بالطاقة والبيئة والمناخ خلال السنوات الماضية.

من خلال هذه المعالم الأربعة، يمكن القول، إننا أمام نموذج عربي فريد نقلَ صحافة الطاقة العربية من خانة المهمَّش إلى خانة المثال الحي الذي يُحتذى به، وإن كان الاحتذاء به سيرهق من بعده، إذ ليس مَنْ نّحتَ النموذج من الصفر وكابدَ المشقات، كمن جاء بعده، وإن نجح.. ولنا مع منصة الطاقة وقفات أخرى.

*الدكتور رجب عز الدين- باحث بوحدة أبحاث الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى